فصل: مسألة أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا فيقتل رجلا مسلما خطأ:

وأخبرنا أبو إسحاق بن أبي الفياض البرقي قال: سمعت أشهب يقول في الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا أو نازلا للتجارة فيقتل رجلا مسلما خطأ، قال: يحبس ويرسل إلى أهل موضعه وكورته التي هو بها يعلمهم بما أحدث صاحبهم وبالذي يجب عليهم في أحكام المسلمين فإن حملوا جنايته فبسبيل ذلك وإن أبوا لم يكن على الجاني إلا بقدر ما كان يصيبه لو أطاعوا بحملها على قدر الاجتهاد، قال سحنون: فسألت عنها أشهب فقال: الدية على الحربي في ماله، وليس على أهل بلده من ذلك شيء، وفي رواية أبي زيد قال سئل ابن القاسم عن حربي دخل بأمان فقتل رجلا من المسلمين خطأ، قال: ديته على أهل دينه يريد الحربيين.
قال محمد بن رشد: رواية أبي زيد عن ابن القاسم مثل رواية البزي عن أشهب خلاف رواية سحنون عنه ولكلا القولين وجه، فوجه قول ابن القاسم ورواية البزي عن أشهب أن السنة قد أحكمت أن الدية في قتل الخطأ على العاقلة فإذا أبى أهل الحرب من أن يؤدوا عنه ما يجب عليهم في ذلك عندنا لم يلزمه هو إلا ما يجب عليه في خاصته، ووجه قول أشهب في رواية سحنون عنه أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد وأن تكون جنايته عليه في ماله عمدا كانت أو خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فخرج عن ذلك بالسنة المسلمون، ومن تجري عليه الأحكام من أهل الذمة والمصالحين، وبقي من كان من لا يجري عليه أحكامنا من أهل الحرب على الأصل في كونه مطلوبا بجنايته، وأيضا فإنا ما أمَّناه على أن تمضي جنايته هدرا، فهذا القول أظهر والله أعلم.

.مسألة قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه:

وكتب إلي سحنون من طرابلس ما تقول- والى الله حفظك- في رجل قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه؟ قال سحنون: من قتل مرتدا عمدا فلا غرم عليه لديته ولا شيء، وسواء قتله مسلم أو نصراني ولا دية عليه ولا قتل، وقد كان عبد العزيز يقتل المرتد ولا يستتيبه، ويذكر ذلك عن معاذ بن جبل ويقول غير أن السلطان يؤدب القاتل لما افتات عليه؛ لأن مثل هذا، الحكم فيه بيد السلطان، قال أبو إسحاق البرقي: عقله في الخطأ والعمد عقل مجوسي في نفسه وجميع جراحاته، وكذا قال أشهب وابن القاسم، وأخبرني بعض أصحابنا عن أصبغ مثله، وسأل عنها سحنون وذكر له رواية البرقي عن ابن القاسم وأشهب أنهما قالا: عقله عقل مجوسي فاذكر روايته عنهما وقال: سألت عنها أشهب غير مرة فقال لي: عقله عقل الدين الذي ارتد إليه.
قال محمد بن رشد: أما سحنون فقد بين وجه قوله أنه استحسان مراعاة لقول من لا يرى استتابته ويوجب عليه القتل ما لم يرجع إلى الإسلام والقياس على القول بوجوب استتابته ما رواه سحنون عن أشهب أن عقله عقد الدين الذي ارتد إليه؛ لأنه إن كان ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فقد قتل نصرانيا محرم القتل أو يهوديا محرم القتل فوجبت عليه الدية نصراني أو يهودي، وإن كان ارتد إلى المجوسية فقد قتل مجوسيا محرم القتل فوجبت عليه دية مجوسي، ووجه القول بأن ديته دية مجوسي هو أنه لما كان لا يقر على الدين الذي ارتد إليه وإن بذل الجزية عليه لم يعتبر به فكأن قاتله قد قتل كافرا محرم القتل فوجب أن يكون عليه أقل ديات الكافر وهى ديات المجوس؛ لأن الأقل واجب، وما زاد عليه مشكوك فيه، فوجب ألا يجب الزيادة على القاتل إلا بيقين وبالله التوفيق.

.مسألة قال له أقتلنى فقتله:

وسئل سحنون عن الرجل يقول يا ليتني أجد من يقتلني فقال له رجل: أشهد لي على نفسك أنك قد وهبت لي دمك وعفوت عني وأنا أقتلك، فأشهد له على ذلك فقتله، فقال لي قد اختلف في ذلك بعض أصحابنا وأحسن ما رأيت في ذلك أنه يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له، وإنما يجب لأوليائه ولا يشبه من قتل فأدرك حيا فقال أشهدكم أني قد عفوت عنه.
قيل له: فلو أنه قال: اقطع يدي فقطع يده؟ قال: لا شيء عليه لأن هذا ليس بنفس وإنما هو جرح.
قال محمد بن رشد: قد بين سحنون وجه ما اختاره من الاختلاف الذي ذكره، وهو أنه عفا عن شيء لم يجب له بعد، فلم يلزم، وفي المسألة ثلاثة أقوال أحدها قول سحنون هذا، والثاني أنه لا شيء على القاتل لأن المقتول قد عفا له عن دمه فسقطت عنه التبعة فيه على القول بجواز إسقاط الحق قبل وجوبه، والثالث أنه لا يقتص منه لشبهة عفو المقتول له عن دمه وتكون عليه الدية في ماله، وهذا القول أظهر الأقوال والله أعلم.

.مسألة يوقد تحت قدره فمات الصبى دون أن يره:

من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: وسأل رجل ابن القاسم فقال له إني رجل أطبخ هذا القصب السكر، وإني جعلت حوالي قدري قصبا فسترته عن الناس، وإن صبيا قام خلف القصب ولا علم لي به فكنت أوقد تحت قدري ففارت القدر بما فيها، فأصاب الصبي ما خرج منها فمات فقال له ابن القاسم: لا أرى عليك شيئا، قال محمد بن خالد: ونزلت.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى عليك شيئا يريد لا في ماله ولا على عاقلته، وهو صحيح؛ لأنه فعل ما يجوز له، فلم يكن منه جناية على الصبي بعمد ولا خطأ على معنى ما قاله في المدونة في الذي يرسل النار في أرضه وأرض جاره بعيدة مأمونة من هذا النار فتحاملت النار أو حملتها الريح إلى أرض جاره فلا شيء عليه فيما أحرقت فيه، ولو كانت أرض جاره قريبة غير مأمونة من هذه النار لكان ما أحرقت فيه من الناس من الخطأ الذي يكون على العاقلة على ما قاله في المدونة، والخطأ في الجنايات على الأحرار ينقسم على قسمين، خطأ لا شبهة فيه للعمد، وخطأ فيه شبهة للعمد فأما ما كان من الخطأ الذي لا شبه فيه للعمد فهو على العاقلة باتفاق إلا فيما دون الثلث.
وأما ما فيه شبهة العمد فيفترق فيه الحكم بحسب قوة الشبهة وضعفها.
فمنها ما تقوى فيه الشبهة فتكون الدية فيه في مال الجاني، وذلك كالشاهدين يشهدان بالزور فيقتل المشهود عليه بشهادتهما، وقد قيل إن القصاص يجب عليهما، ولذلك وجه وهو أنهما بشهادتهما قد أكرها الحاكم على قتله، وقد مضى تحصيل في ذلك في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات.
ومنه ما تضعف فيه الشبهة فتكون فيه الدية على العاقلة كالذي يرسل النار في أرض قريبة من أرض جاره فيحرق فيها ناسا.
ومنه ما تكون الشبهة فيه دون القوية وفوق الضعيفة فيختلف في الدية فيه هل تكون على الجاني في ماله أو على العاقلة كالطبيب يغر من نفسه فيخطئ على المريض فيموت من علاجه، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وكالكلب العقور يعدو على الناس بعد التقدم إليه فيه حسبما مضى القول فيه في رسم لم يدرك من سماع عيسى قبل هذا من هذا الكتاب وبالله التوفيق.

.مسألة يقول هذا قاتل أخي ويسأل القاضى أن يسجنه:

من سماع عبد الملك من ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يتعلق بالرجل فيقول هذا قاتل أخي أو ابن عمي أو قريب لي فيأتي به إلى القاضي فيسأله أن يسجنه حتى يأتي بالبينة إلى ثلاثين ليلة أو أكثر من ذلك أو أقل فهل يسجن له بقوله حتى يستبرئ أمره والمدعى عليه من أهل الريبة والتهمة أو لا يكون من أهل الريبة والتهمة؟ قال ابن القاسم: إن كان المدعى عليه من أهل التهم والريبة رأيت أن يحبس ويضرب للمدعي أجل شهر أو نحوه ليس الشهر للمتهم المريب بكثير وإن كان غير متهم فلا يكون له أن يحبس بقوله إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

.مسألة النصراني يقتل العبد المسلم:

وسألت أشهب عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به، قيل: فإن قال السيد لا أريد القتل وأنا أريد أن آخذ قيمة عبدي؟ قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سلف دينارا من سماع عيسى قبل هذا فلا معنى لإعادته.

.مسألة يفر من موت إلى موت أيسر منه:

وأخبرني من أثق به من أصحابي عن ابن وهب أو عن أشهب أنه سأل عن الرجل يخرج بكفه ريشته فيذهب لذلك بعض كفه ويخاف على ما بقي من يده منها فيقال له: اقطع يدك من المفصل قال إن كان ذلك أمرا مخوفا يخاف عليه الموت من قطعه لم ينبغ له أن يقطع وإن كان أمرا لا يخاف عليه الموت فلا أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: إما إذ لم يخف إذا لم يقطع يده من المفصل إلا على ما بقي من يده فلا يجوز أن يقطع يده من المفصل إذا كان ذلك أمرا يخاف عليه منه الموت، وأما إن خشي إن لم يقطع يده من المفصل أن يتراقى أمر الريشة إلى أن يموت منها فله أن يقطع يده من المفصل وإن كان ذلك أمرا مخوفا إذا كان الخوف عليه من الريشة أكثر وقد أجاز مالك في المدونة لأهل السفينة من المسلمين إذا أحرقها العدو أن يطرحوا بأنفسهم في البحر وإن علموا أن في ذلك هلاكهم وقال لا بأس بذلك إنما فروا من الموت إلى الموت فإذا أجاز أن يفروا من الموت إلى الموت فأحرى أن يفروا من الموت إلى ما يرجى فيه الحياة ويخاف فيه الموت، ولم يجز له ربيعة أن يفر من موت إلى موت أيسر منه، فلا اختلاف بينهم في أنه يجوز له أن يفر من أمر يخاف فيه الموت إلى أمر يرجو فيه النجاة وإن لم يأمن فيه الموت وبالله التوفيق.

.مسألة جريحا يقال له من جرحك فيقول ما أعرفه ثم يقول فلان:

وسألت ابن وهب عن الذي يوجد جريحا فيقال له: من جرحك؟ فيقول: ما أعرفه غلبني السكر وظلام الليل ثم يسأل بعد يوم أو يومين فيقول: فلان جرحني هل يقبل ذلك منه؟ قال: لا يقبل قوله وقد نزلت هذه عندنا فرأينا ألا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى، وأن المخالف في ذلك ابن الماجشون ويرد قوله الحديث المأثور في ذلك فلا معنى لإعادته.

.مسألة النصراني يقتل العبد المسلم:

وسئل وأنا أسمع عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة فوق هذا وفي رسم سلف من سماع عيسى ومضى الكلام عليها هناك فلا معنى لإعادته.

.مسألة يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة:

وسألته عن الذي يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة؟ قال: نعم، قلت له: فالذي يقتل بالسم هو عندك مثله؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله هو عندك مثله يريد أنه يقاد منه بالسم كما يقاد منه في التغريق بالتغريق، وهو نص قوله في المدونة: إنه يقاد منه بالسم إذا قتله بالسم، وقد تأول ابن أبي زيد هذه المسألة وحملها على غير ظاهرها، يعني يوجب القود بغير السم، وهو من التأويل البعيد، وكذلك حمل أصبغ قول مالك في الواضحة على غير ظاهره لأنه حكى عنه أنه قال: يقتل من سقي السم، فقال هو: غير أنه لا يقاد من ساقي السم بالسم ولا من حرق رجلا بالنار لم يقتل بالنار؛ لأنهما من المثل ولكن يقتل بالسيف، فقول أصبغ خلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في القود بالنار وبالسم؛ لأنه إذا قيد على مذهب مالك من القاتل بالسم بالسم فأحرى أن يقاد من القاتل بالنار بالنار، وقد مضى الكلام على هذا في أول سماع أشهب مستوفى فلا معنى لإعادته.

.مسألة قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله:

من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الحدود قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله، فقال: ليس عليه قتل ويغرم لصاحبه لأنه الذي أبطل حقه لعله يعفو عنه، يقول لعله كان يصالح عليه ويأخذه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قال إنه يغرم لصاحبه، ولم يقل ما يغرم له؟
والذي يغرم- على مذهبه في أن القاتل لا يجبر على غرم الدية- نصف ما يرى أنه كان يرضى أن يصالح به عن نفسه، ولا يقتل، وعلى مذهب أشهب يغرم له نصف الدية إن كان القاتل مليا بالدية، أو نصف ما كان له من المال إن لم يكن مليا بها وبالله التوفيق.

.مسألة الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه:

قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان أنه قتل ابنه عمدا فأسلم إلى الولي وهو الأب فقتل ثم جاء ابنه فإذا هو حي، قال: يغرم الشاهدان الدية، وليس على الأب شيء؛ لأنه إنما هو دم شهد له به فأخذه، وقاله أصبغ وخطأ من الشاهدين، وهو كالرجوع فأراه إن تعمدا في أموالهما، وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما، قيل له: فإن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أيضا؟ قال: يغرم الأب إنما شهد له بدم ولم يشهد بمال فأخذ في ذلك الدم مالا فهو يرده، قيل فيوجد معدما أيؤخذ من الشاهدين؟ قال: لا أرى عليهما شيئا، وقاله أصبغ وهو الحق إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله إن الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه أنه لا شيء على الأب معناه إن ادعى أنه لم يعلم وظن أن الشاهدين شهدا بحق وصدّقه ورثة المستقاد منه في دعواه، فإن لم يصدقوه وادعوا عليه أنه علم كذب الشهود لزمته اليمين في ذلك باتفاق إن حققوا عليه الدعوى في ذلك، وعلى اختلاف إن لم يحققوا عليه الدعوى وأرادوا أن يحلفوه بالتهمة في ذلك فإن نكل عن اليمين حلف ورثة الميت إن كانوا حققوا عليه الدعوى ولزمه غرم الدية مع الشاهدين يكون كل واحد منهم حميلا عن صاحبه بما يجب عليه منها.
وأما قوله: إن الغرم على الشاهدين فإن تعمدا ففي أموالهما وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما فهو خلاف قوله في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات إن ذلك في أموالهما تعمدا الزور أو شبه عليهما، وفي المسألة قول ثالث أنهما إن تعمدا اقتص منهما، وإن شبه عليهما كانت الدية في أموالهما، وهو قول ابن نافع وأشهب، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقول رابع أنهما إن تعمدا كانت الدية في أموالهما وإن شبه عليهما كان ذلك هدرا، وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم.
وأما قوله إنه إن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أن الأب يغرم ما أخذ إن كان له مال، فإن لم يكن له مال اتبع به دينا ولم يكن على الشاهدين شيء فهو على قياس قوله في أن القاتل لا يلزمه غرم الدية إلا برضاه، ويأتي على قياس قول أشهب وأحد قولي مالك في أنه مجبور على غرم الدية أن يرجع على الشاهد في عدم الأب فيغرمان ويتبعان الأب وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا:

وسئل ابن القاسم عن شاهدين شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا، قال: يرد الدية الذي أخذ من العاقلة لأنه وإن كان شهد له بمال فقد جاء من ينتزعه من يديه؛ لأنه لا شيء له أصلا وقد تبين أن ما شهد به ليس كما شهد، قيل: فوجد الأب معدما، قال: يغرمه الشاهدان.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في آخر سماع سحنون والكلام عليها فلا معنى لإعادته.

.مسألة يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله:

وسألت أشهب عن الذي يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله؟ قال: نعم، قلت كم؟ قال: سنة، قلت فإن أخذ العقل بعد السنة ثم رجع إليه عقله؟ قال: حكم قد مضى، أو قال مضى ما مضى أي لا يرد شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يستأنى بذهاب العقل سنة صحيح كما قال، والوجه في ذلك أن تمر عليه الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه ولم يرجع إليه عقله حكم له بعقل عقله وهو الدية كاملة، ولا اختلاف في أنه ينتظر به سنة كما قال؛ إذ ليس في ذلك معنى سوى الرجاء في رجوع عقله إليه باختلاف الأربعة الأزمنة عليه، وإنما اختلف في الجراح، فقيل إنه ينتظر بها سنة وإن بريت قبل السنة، فإن أتت السنة عليها ولم تبرأ انتظر برؤها بعد السنة وهو مذهبه في المدونة، فقال ابن حبيب ينتظر بها بروها، فإن بريت قبل السنة لم ينتظر تمامها إلا أن تبرأ على عثل فإن برئت على عثل انتظر بها إتمام السنة ولا ينتظر بها بعد السنة، ويحكم فيها بالقود إذا انقضت السنة، وإن لم تبرأ فإن ترامى الجرح إلى ذهاب عضو آخر نظر فيه كما كان ينظر فيه لو حكم بالقود بعد البرء، وقول أشهب في هذه الرواية إنه لا يرد العقل برجوع عقله إليه بعد الحكم مثله قال في كتاب ابن المواز في الذي ضربت عينه فنزل الماء فيها أو ابيضت فأخذ الدية ثم بريت بعد ذلك إنه لا يرد شيئا، وهو اختيار ابن المواز إذا كان القضاء بذلك بعد الاستقصاء والأناة فلم ير بين المسألتين فرقا، ورأى القضاء بذلك حكما وقع باجتهاد صحيح، فلا يرد، وأما ابن القاسم فقال في المدونة، في الذي ابيضت عينه أو نزل الماء فيها فحكم له بالدية ثم برئت أنه يرد ما أخذ، فقيل إنه هو الذي يأتي في مسألة العقل على مذهبه، وأنه لا فرق عنده بين المسألتين، وقيل إن المسألتين مفترقتان عنده وإن مذهبه في مسألة العقل كقول أشهب؛ لأن العقل يذهب حقيقة ثم يعود بعد ذهابه، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه لم ينقض الحكم فيه لرجوعه، وأما البصر فقد يستره ساتر دون أن يذهب حقيقة، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه في الظاهر ثم رجع علم أنه لم يكن ذهب حقيقة وإنما كان ستره ساتر، فانكشف برجوعه خطأ الحكم بالدية، فوجب ردها.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أنه يرد الدية في المسألتين، والثاني أنه لا يردها في واحدة منهما، والثالث الفرق بينهما فيردها في رجوع البصر ولا يردها في رجوع العقل، ولا اختلاف بينهم في أنه إذا عاد البصر أو العقل قبل الحكم لا يقضى له بشيء.
وحكم السمع يذهب ثم يعود قبل الحكم أو بعد الحكم حكم البصر على ما ذكرناه فيه.
وأما الكبير تصاب سنه فيقضى له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها، هذا مذهب ابن القاسم وقول أشهب في كتاب ابن المواز وروايته عن مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الجنايات.
والأذن بمنزلة السن في ذلك لا يرد العقل إذا ردها بعد الحكم فتثبتت واستمسكت، وإنما اختلف فيهما إذا ردهما فثبتتا واستمسكتا وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال: أحدها: قوله في المدونة إنه يقضى له بالعقل فيهما جميعا إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبدا، وقال أشهب إنه لا يقضى له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم، والثالث: الفرق بين السن والأذن فيقضي بعقل السن وإن ثبتت، ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتها، وإن لم تعد لهيئتها عقل له بقدر ما نقصت، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجنايات، ولا اختلاف بينهم في أنه يقضى له بالقصاص فيهما وإن عادا لهيئتهما فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتهما فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك وإن لم يعودا أو قد كانت عادت سن الأول أو أذنه فلا شيء له، وإن عادت سن المستقاد منه أو أذنه ولم تكن عادت سن الأول ولا أذنه غرم العقل قاله أشهب في كتاب ابن المواز وبالله التوفيق.

.مسألة أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم:

قال أصبغ: وسألت أشهب عن أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم؟ قال: لا بل هم أهل ذهب وقال أصبغ: هم اليوم أهل ذهب.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا إشكال فيه؛ لأن أهل الإبل إنما هم أهل البوادي وأهل العمود، وأما أهل الأمصار والمدن فهم إما أهل ذهب أو أهل ورق، وقول أصبغ هم اليوم أهل ورق دليل على أن أحوال البلاد في ذلك قد تنتقل، وكذلك أهل الأندلس هم اليوم أهل ذهب وقد كانوا في القديم أهل ورق على ما يوجد في وثائقهم وقاله أهل تواريخهم وبالله التوفيق.

.مسألة قول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين:

ومن كتاب المجالس:
قلت: أرأيت أن أقمت شاهدا واحدا على قول ولي إن فلانا ضربه ومن ضربه يموت أيجب به القسامة؟ قال: لا، ولا يكون ذلك بأقل من شاهدين لأن الميت غائب، وقول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين، قلت: أيجب على المرمى بالدم بهذه الشهادة حبس؟ قال: لا يلزمه بهذه الشهادة شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر سماع سحنون وهو مما لا إشكال فيه ولا اختلاف.

.مسألة العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في السفيه إنه يعقل مع العاقلة وقال في موالي القبيل إنهم يعقلون مع القبيل.
قال محمد بن رشد: العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة، ويعقل السفيه والمولى عليهم معهم، ويؤخذ من ماله ما نابه من العقل، ويعقل عن الموالي الأسفلين المنعم عليهم بالعتق، وجميع القبيلة لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «مولى القوم منهم» واختلف هل يعقل المولى الأسفل مع القبيلة التي مواليه منها ما جناه مواليه وسائر أهل القبيلة أم لا؟ فقال في هذه الرواية في موالي القبيل أنهم يعقلون مع القبيل، وخالف في ذلك سحنون فقال إنه لا يعقل مع الجاني مواليه الذين أنعم هو عليهم لأنهم لا يرثونه، ويعقل عنه مواليه الذين أنعموا عليه وقومهم، هذا نص قوله، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز فقال أجمع العلماء أن الموالي من أسفل لا يعقلون مع من أعتقهم، قال: وهو معنى قول ابن القاسم، وليس قول ابن المواز بصحيح، بل يعقلون معهم على مذهب ابن القاسم، وهو نص قوله في هذه الرواية، وله مثله في جنايات العبيد من المدونة، ومثله لابن كنانة في المدونة، والذي في كتاب جنايات العبيد من المدونة هو قوله في المبتل في المرض إذا لم يكن لسيده أموال مأمونة إن جنايته جناية عبد لأن العاقلة لا تحمل له جريرة حتى يحمل هو مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجراير، واعتلال سحنون في ذلك بأنهم لا يرثونه ليس بصحيح إذ ليس العقل مرتبطا بالميراث؛ لأن الرجل يعقل عمن لا يرثه من عشيرته، وكما لا يعقل عنه من لا يرثه من قبيلة مولاه فكذلك يعقل هو عمن لا يرثه من مواليه وسائر قبيلته والعقل في هذا بخلاف القيام بالدم لا اختلاف في أنه لا حق للمولى الأسفل في القيام بالدم والقسامة فيه، ولا عقل على النساء ولا على العبيد ولا على الصبيان والمجانين.

.مسألة طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه:

قال أصبغ في طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله.
قال محمد بن رشد: قوله ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله معناه إذا لم يخطأ ولا غر من نفسه وهو محمول على أنه لم يخطأ حتى يتبين خطأه، وعلى أنه لم يغر إذا أخطأ حتى يعلم غروره، وظاهر قوله أنه لا شيء عليه وإن أخطأ وغر حتى يعلم أنه أراد بما سقاه قتله، وإنما حمل قوله في هذا على ظاهره فيكون معنى قوله: إنه ليس عليه شيء أي ليس عليه شيء في ماله وإنما تكون الدية في ذلك على عاقلته إلا أن يعلم أنه سقاه شيئا أراد به قتله فيقتل به؛ إذ لا خلاف في أن الدية على عاقلته إذا أخطأ ولا ما إذا غر من نفسه، فقيل إن الدية في ماله وهو ظاهر قول مالك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وقيل إنها على العاقلة، وهو قول عيسى بن دينار هناك وظاهر قول أصبغ هاهنا وبالله التوفيق.

.مسألة عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا:

قيل لأصبغ: أرأيت عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا؟ قال: تخير المرأة بين أن تدفع إلى زوجها ما يصيبه من دية الجنين وتحبس العبد، وبين أن تدفع جميع العبد إليه، قيل له ولم ودية الجنين بين أبيه وأمه؟ فلم لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية الجنين أو تسلم ثلثيه إن أحبت؟ قال: لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية أجنبي، مع أن السيد يخير قال: لا يكون لها ذلك لأن جناية العبد على سيدته هاهنا كجنايته على سيدته وعلى أجنبي معها وقد قال ابن القاسم في العبد يجني على سيده وعلى أجنبي معه أن السيد يخير، بين أن يفتكه كله بدية جناية الأجنبي وبين إسلامه كله في جناية الأجنبي ولا يقاصه بجنايته، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده:

قال أصبغ قال ابن القاسم في الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده فيقر المدعى عليه أنه رماه أو ضربه ويقول: لم يمت من ذلك، ويدعي الرجل أنه مات منه، قال ابن القاسم: يحلف المدعي يمينا واحدة لمات منه ويستحق ثمنه، قال ابن القاسم: وكذلك لو ثبت أنه ضربه أو رماه ثم مات أنه يحلف يمينا واحدة ويستحق ثمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها وعلى ما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.